لم يعد ما يعيشه اليمنيون مجرد أزمة سلطة عابرة، بل تحوّل إلى مأزق سياسي مركّب، تتقاطع فيه هشاشة الداخل مع رهانات خاطئة على الخارج. فحين تفقد السياسة معناها، يصبح الجميع في حالة انتظار: أطراف تنتظر اعترافاً، وأخرى تنتظر تدخلاً، بينما ينتظر الشعب نهاية لمعاناة لا تبدو لها أفق واضح.
الشرعية، والحوثيون، والمجلس الانتقالي، ورغم اختلاف مواقعهم وخطاباتهم، انتهوا عملياً إلى طريق مسدود. فلا الشرعية استطاعت أن تعيد نفسها إلى موقع القيادة الفعلية، ولا الحوثي نال اعترافاً دولياً، ولا الانتقالي حقق هدفه في الانفصال أو حاز قبولاً دولياً به ككيان سياسي مستقل. وبين هذا وذاك، ظل الشعب اليمني هو الخاسر الوحيد.
الحوثيون، الذين يسيطرون بالقوة على جزء واسع من البلاد، يراهنون منذ سنوات على فرض الأمر الواقع، وكأن الاعتراف الدولي مسألة وقت فقط. غير أن المجتمع الدولي، مهما بدا متردداً أو براغماتياً، لم يمنحهم هذا الاعتراف، ولا يزال يتعامل معهم كجماعة أمر واقع لا كدولة. والاستمرار في هذا الرهان يبدو مقامرة سياسية، بل حماقة عجيبة، لأن السيطرة بالقوة لا تصنع شرعية، ولا تؤسس دولة قابلة للحياة. والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: إلى أين يتجه هذا المسار؟ وما نهاية حكم بلا اعتراف، ولا أفق اقتصادي، ولا قبول داخلي جامع؟
الأمر ذاته ينطبق على المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي بنى خطابه على استعادة الدولة والانفصال، لكنه لم ينجح حتى الآن في ترجمة ذلك إلى واقع معترف به دولياً. فالعالم لم يعترف بدولة جنوبية، ولم يتعامل مع الانتقالي كبديل شرعي، بل كطرف ضمن صراع معقد. ومع غياب مشروع اقتصادي وخدمي مقنع، تحوّلت مناطق سيطرته إلى ساحة أزمات متكررة، لا نموذجاً جاذباً لدولة منشودة.
أما الشرعية، فهي الطرف الوحيد المعترف به دولياً، لكنها تعاني من هزال شديد في الداخل. تعيش أزمة قيادة، وتفتقر إلى الفاعلية، وتعوّل – بدرجة مقلقة – على أن يعيدها المجتمع الدولي إلى سدة الحكم، وكأن الشرعية تُمنح من الخارج لا تُبنى في الداخل. والحقيقة القاسية أن الاعتراف الدولي، مهما كان مهماً، لا يعوّض غياب القدرة الذاتية.
وسط هذا المشهد، تتجسد المأساة الحقيقية في الواقع المعيشي. الجوع يتسع، والخوف يتعمق، والمرض ينتشر في ظل نظام صحي شبه منهار. المستشفيات الحكومية عاجزة، وأسعار الدواء تفوق قدرة الناس، وتأمين صحي غائب. والأكثر إيلاماً أن الأكاديميين، وهم صفوة المجتمع وعماده المعرفي، أصبحوا من أكثر الفئات استنزافاً: رواتب متآكلة ومعدومة، وضغوط نفسية قاسية، وأمراض مزمنة، وعجز مؤلم عن شراء العلاج بل وحتى عن توفير لقمة العيش. وكثير منهم قد رحلوا بصمت مُهين مُخيف، لا لأنهم أقل عطاءً، بل لأن الحياة أصبحت أثقل من قدرتهم على الاحتمال.
ولا يمكن عزل هذا الانهيار عن العامل الخارجي. فقد حققت قوى إقليمية ودولية كثيراً من أهدافها في تمزيق اليمن وإضعافه، لكن المأساة الأكبر أن ذلك جرى بأيدي قيادات يمنية، راهنت على الخارج، واستقوت به، وقدّمت مصالحها الضيقة على المصلحة الوطنية. وحين يغيب المشروع الوطني الجامع لأي قيادة تتولى حكم الوطن، يصبح الوطن ساحة مفتوحة للتجاذبات والصراعات البينية.
إن المشهد اليمني اليوم يكشف فشلاً جماعياً ذريعاً: شرعية لم تعُد نفسها للحكم، وحوثي انقلابي لم يعترف به أحد، وانتقالي لم ينفصل ولم يُعترف به. الجميع خسر سياسياً، لكن الشعب وحده يدفع الثمن إنسانياً. وفي المحصلة، لا يبدو أن اليمنيين يملكون ترف الانتظار أكثر مما انتظروا. فالتجارب أثبتت أن الرهان على فرض الأمر الواقع لم يُنتج اعترافاً، وأن التعويل على الخارج لم يُعد دولة، وأن الانقسام لم يصنع كياناً قابلاً للحياة. وحده الشعب اليمني ظل يدفع ثمن هذه المقامرات السياسية الفاشلة من قوته، وصحته، واستقراره، ومستقبل أبنائه. ولذلك، فإن أي أفق حقيقي للخروج من الأزمة يبدأ بإرادة وطنية صادقة، ومراجعة شجاعة للأخطاء، وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع. فكما قيل: "ما حك جلدك مثل ضفرك فتولى أنت جميع أمرك"؛ ومن دون أن تتولى القوى اليمنية مسؤولية مصيرها بنفسها، ستظل البلاد عالقة في هذا المأزق، وسيبقى المواطن وحده من يدفع كلفة فشل السياسة وغياب الدولة.
بقلم:
ا.د.محمد ناجي الدعيس
[email protected]